Monday, August 26, 2019

مايكل راكوفيتز: فنان يعيد ترميم ما دُمر من آثار عراقية بأوراق تغليف وعلب فارغة

ما الذي يجمع بين جلال المنحوتات الأثرية ومواد تغليف المنتجات الغذائية والحلويات وعلب الأغذية الفارغة، أو بين الرئيس المصري جمال عبد الناصر والمغني جون لينون وبين تاريخ فرقة البيتلز البريطانية وتاريخ حلم الوحدة العربية أو الصراع العربي الإسرائيلي، أو بين زخارف المباني بطراز الأرت ديكو ومذبحة الأرمن في 1915، أو بين سكان أستراليا الأصليين والأممية الثالثة؟
إن الجامع الوحيد بين كل تلك المتناقضات هو خيال الفنان الأمريكي العراقي الأصل مايكل راكوفيتز الجامح، ونزوعه لخلق نوع من الصدمة لمشاهد أعماله تنقله من حالة التلقي السلبي إلى المشاركة الفاعلة في قلب التجربة الفنية التي تقدمها أعماله. وهي ليست صدمة شكلية فحسب، بل صدمة وعي تهدف إلى إيقاظ وعي المشاهد وإثارة الأسئلة لديه، وهذا ما يفسر كثافة الأفكار والشروحات والتعليقات التي ترافق أعماله الفنية.
يقوم فن راكوفيتز على تحدي عوامل الغياب والتدمير والاندثار وإعادة إحياء ما تدمره وبعثه أو تجسيده بمواد مختلفة عبر وسائل فنية تستثمر المهمل من الأشياء والشائع والمعاد تدويره. فتراه يعيد بناء الآثار العراقية المدمرة والمسروقة باستخدام علب دبس فارغة أو أوراق تغليف حلويات ومنتجات غذائية، أو يقوم بعكس ذلك بإعادة إنتاج كتب مقدسة احترقت على أيدي النازيين أو في قصف جوي خلال الحرب العالمية الثانية ببقايا أحجار من تمثالي بوذا الأثريين اللذين فجرهما مقاتلو طالبان في باميان بأفغانستان، أو يعيد تشكيل زخارف "الأرت ديكو" في مباني اسطنبول من عظام في إحالة إلى مذبحة الأرمن.
لا تتوقف أعمال راكوفيتز عند حقل فني أو إبداعي تشكيلي محدد، بل تتحدى تلك الحواجز بين الفنون والحقول المعرفية لتجمع بين حقول مختلفة كالجماليات (الاستطيقا) والسياسة والثقافة الشعبية.
وتجد تلك التعددية جذورها في الأصول المتعددة لعائلة راكوفيتز، فهو فنان أمريكي ولد في نيويورك من أسرة يهودية مهاجرة من العراق في أربعينيات القرن الماضي، يرجع نصفها إلى أصول يهودية عراقية والنصف الآخر إلى أوروبا الشرقية. وقد ولدت أمه في مومباي في الهند حيث كانت عائلته تعمل في التجارة ما بين الهند والعراق.
وعلى الرغم من أنه لم يزر العراق أبدا، إلا أن موروث طفولته وما كان يستمع إليه من أحاديث بالعربية داخل عائلته المهاجرة، وما يسمعه من موسيقى أو ما يتذوقه من أطعمة عراقية، عادت لتنبعث لديه وتشكل ثيمات أساسية في فنه لاحقا.
وقد وجد هذا الموروث طريقه إلى إبداع راكوفيتز الذي ظلت موضوعات مثل الهجرة والنزوح والاقتلاع من الجذور وغياب المكان أو تدميره، قضايا ضاغطة على ذاكرته ويحرص على أن يجعل من فنه وسيلة لمقاومتها، أو كما أوضح في مقابلة سابقة مع بي بي سي بقوله: "أحاول أن أجعل ... مشاهد التدمير تجري بطريقة ما بشكل معاكس، ولكن من دون إنكارها".
وقد حرص المعرض الذي استضافه غاليري وايت تشابل، وهو أكبر معرض يقام لراكوفيتز في العاصمة البريطانية، على تقديم صورة شاملة لأبرز مشاريعه وأعماله الفنية في مراحل حياته المهنية المختلفة. وتوزع على طابقين في الغاليري، وقسم إلى عدد من القاعات المنفصلة التي ضمت مشاريعه الفنية المختلفة، التي تبدو وكأنها معارض متعددة داخل معرض واحد.
يحتل مشروع "العدو الخفي يجب أن لا يوجد" مساحة واسعة من معرض راكوفيتز، وهو مشروع ضخم بدأ العمل به منذ عام 2007 ويهدف إلى إعادة تجسيد أو إحياء آلاف القطع من الآثار العراقية التي دُمرت أو فُقدت في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق، ولاحقا في عمليات التدمير المنظمة على أيدي مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية.
ويلجأ راكوفيتز إلى إعادة بناء تلك القطع الأثرية من مخلفات مواد استهلاكية، كعلب المواد الغذائية الفارغة وورق تغليف الحلويات وورق الصحف وما شابه، ويلعب على مفارقة إعادة بناء هذا العالم القديم الذي تقوضه حضارة الاستهلاك المعاصرة التي نعيش في خضمها من مخلفاتها نفسها.
وتمتد هذه المفارقة إلى استعارة العنوان :"العدو الخفي الذي يجب ألا يوجد"، الذي استعاره من عنوان أحد أجزاء شارع الموكب الممتد في بوابة عشتار في مدينة بابل الأثرية في بلاد ما بين النهرين، والتي يترجمها من الأكادية "v" ويمكن ترجمتها أيضا "لن يمر عدو".
وفي قلب هذا المشروع تقع إعادة بناء الثور المجنح "لاماسو" الذي كان أمام بوابة نرغال في عاصمة الدولة الآشورية القديمة نينوى، والذي دمره مسلحو تنظيم الدولة الإسلامية في عام 2015.
وقد استخدم راكوفيتز أكثر من 10 آلاف من علب الدبس الفارغة، والدبس هو المنتج الصناعي الأبرز في العراق الذي يشتهر بإنتاجه من أجود أنواع التمر الذي تُثمره أشجار النخيل فيه، ونصب الثور المجنح في عام 2018 على القاعدة الرابعة في ساحة الطرف الأغر (ترافلغر سكوير) في قلب العاصمة البريطانية لندن.
وفي تموز/يوليو الماضي، نشر راكوفيتز كتابا عن الطبخ والأكلات التي تعتمد على الدبس العراقي، مستعيرا عنوانه من الحديث النبوي "لا يجوع أهل بيت عندهم التمر". وسبق له أن استثمر فكرة الطبخ والطعام في مشروعه "مطبخ العدو" الذي اعتمد على وصفات لأطعمة بغدادية بمساعدة أمه، وقام بعمل مطبخ لإعدادها في شاحنة صغيرة تدور في المدن الأمريكية لتقدم الأطعمة العراقية بالتزامن مع الحرب على العراق في عام 2003، وقد استعان لاحقا بمحاربين قدامي خدموا في الجيش الأمريكي في العراق لتقديم هذه الأطعمة.
كما ظل لسنوات يقيم ورش عمل لتعليم الطبخ العراقي للأمريكيين، وللأطفال على وجه الخصوص. مستثمرا أن يصبح فضاء تقديم الطعام مناسبة للمناقشات عن العراق والحرب لتبديد كثير من الصور النمطية والمفاهيم المضللة والخاطئة التي تكتنف رؤية الآخر في الغالب في الثقافة الشعبية.
وفي السياق ذاته قام بشراء طقم صحون صينية مسروق من أحد قصور الرئيس العراقي السابق صدام حسين من موقع إي باي، واستخدمها لتقديم الدبس والراشي (الطحينة) في مطعم في نيويورك.

No comments:

Post a Comment